فصل: ذكر استلحاق معاوية زياداً:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عود عبد الرحمن إلى ولاية سجستان:

في هذه السنة استعمل عبد الله بن عامر عبد الرحمن بن سمرة على سجستان، فأتاها وعلى شرطته عباد بن الحصين الحبطي ومعه من الأشراف عمرو بن عبيد الله بن معمر وغيره، فكان يغزو البلد قد كفر أهله فيفتحه، حتى بلغ كابل فحصرها أشهراً ونصب عليها مجانيق فثلمت سورها ثلمةً عظيمة، فبات عليها عباد بن الحصين ليلةً يطاعن المشركين حتى أصبح فلم يقدروا على سدها وخرجوا من الغد يقاتلون فهزمهم المسلمون ودخلوا البلد عنوةً، ثم سار إلى بست ففتحها عنوةً، وسار إلى زران فهرب أهلها وغلب عليها، ثم سار إلى خشك فصالحه أهلها، ثم أتى الرخج فقاتلوه فظفر بهم وفتحها، ثم سار إلى زابلستان، وهي غزنة وأعمالها، فقاتله أهلها، وقد كانوا نكثوا، ففتحها، وعاد إلى كابل وقد نكث أهلها ففتحها.

.ذكر غزوة السند:

استعمل عبد الله بن عامر على ثغر الهند عبد الله بن سوار العبدي، ويقال ولاه معاوية من قبله، فغزا القيقان فأصاب مغنماً، ووفد على معاوية وأهدى له خيلاً قيقانية، ورجع فغزا القيقان فاستنجدوا بالترك فقتلوه، وفيه يقول الشاعر:
وابن سوارٍ على عدانه ** موقد النار وقتال الشغب

وكان كريماً لم يوقد أحد في عسكره ناراً، فرأى ذات ليلة ناراً فقال: ما هذه؟ قالوا: امرأة نفساء يعمل لها الخبيص؛ فأمر أن يطعم الناس الخبيص ثلاثة أيام.

.ذكر ولاية عبد الله بن خازم خراسان:

قيل: وفي هذه اسنة عزل عبد الله بن عامر قيس بن الهيثم القيسي ثم السلمي عن خراسان واستعمل عبد الله بن خازم.
وسبب ذلك أن قيساً أبطأ بالخراج والهدية، فقال عبد الله بن خازم لعبد الله بن عامر: ولني خراسان أكفكها. فكتب له عهده، فبلغ ذلك قيساً فخاف ابن خازم وشغبه فترك خراسان وأقبل: فازداد ابن عامر غضباً لتضييعه الثغر، فضربه وحبسه وبعث رجلاً من يشكر على خراسان، وقيل: بعث أسلم بن زرعة الكلابي ثم ابن خازم.
وقيل في عزله غير ذلك، وهو أن ابن خازم قال لابن عامر: إنك استعملت على خراسان قيساً وهو ضعيف، وإني أخاف إن لقي حرباً أن ينهزم بالناس فتهلك خراسان وتفضح أخوالك، يعني قيس عيلان. قال ابن عامر: فما الرأي؟ قال: تكتب لي عهداً إن هو انصراف عن عدو قمت مقامه. فكتب له.
وجاش جماعةٌ من طخارستان فشاوره قيس فأشار عليه ابن خازم أن ينصرف حتى يجتمع إليه أطرافه، فلما سار مرحلة أو اثنتين أخرج ابن خازم عهده وقام بأمر الناس ولقي العدو فهزمهم، وبلغ الخبر الكوفة والبصرة والشام فغضب القيسية وقالوا: خدع قيساً وابن عامر! وشكوا إلى معاوية، فاستقدمه، فاعتذر مما قيل فيه، فقال معاوية: قم غداً فاعتذر في الناس. فرجع إلى أصحابه وقال: إني أمرت بالخطبة ولست بصاحب كلامٍ فاجلسوا حول المنبر فإذا قلت فصدقوني. فقام من الغد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنما يتكلف الخطبة إمامٌ لا يجد منها بداً أو أحمق يهمر من رأسه، ولست بواحد منهما، وقد علم من عرفني أني بصير بالفرص وثاب إليها، وقاف عند المهالك، أنفذ بالسرية وأقسم بالسوية، أنشد الله من عرف ذلك مني فليصدقني. فقال أصحابه: صدقت. فقال: يا أمير المؤمنين إنك فيمن نشدت فقل بما تعلم. فقال: صدقت.

.ذكر عدة حوادث:

وحج هذه السنة مروان بن الحكم وكان على المدينة، وكان على مكة خالد ابن العاص بن هشام؛ وعلى الكوفة المغيرة، وعلى البصرة عبد الله بن عامر.
فيها مات عبد الله بن سلام، وله صحبة مشهورة، وهو من علماء أهل الكتاب، وشهد له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالجنة. ثم دخلت:

.سنة أربع وأربعين:

في هذه السنة دخل المسلمون مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بلاد الروم وشتوا بها، وغزا بسر بن أبي أرطأة في البحر.

.ذكر عزل عبد الله بن عامر عن البصرة:

وفي هذه السنة عزل عبد الله بن عامر عن البصرة.
وسببه أن ابن عامر كان حليماً كريماً ليناً، لا يأخذ على أيدي السفهاء، وفسدت البصرة في أيامه فشكا ذلك إلى زياد، فقال له: جرد السيف. فقال له: إني أكره أن أصلحهم بفساد نفسي. ثم إن ابن عامر وفد وفداً من البصرة إلى معاوية فوافقوا عنده وفد الكوفة، وفيهم ابن الكوا، واسمه عبد الله بن أبي أوفى اليشكري، فسألهم معاوية عن أهل العراق وعن أهل البصرة خاصة، فقال ابن الكوا: يا أمير المؤمنين، إن أهل البصرة قد أكلهم سفاؤهم، وضعف عنهم سلطانهم، وعجز ابن عامر وضعفه. فقال له معاوية: تتكلم عن أهل البصرة وهم حضور؟ فلما عاد أهل البصرة ابلغوا ابن عامر، فغضب وقال: أي أهل العراق أشد عداوةً لابن الكوا؟ فقيل: عبد الله بن أبي شيخ اليشكري، فولاه خراسان، فبلغ ذلك ابن الكوا، فقال: إن ابن دجاجة، يعني ابن عامر، قليل العلم في، ظن أن ولاية عبد الله خراسان تسوءني! لوددت أنه لم يبق يشكري إلا عاداني وأنه ولاه.
وقيل: إن الذي ولاه ابن عامر خراسان طفيل بن عوف اليشكري.
فلما علم معاوية حال البصرة أراد عزل ابن عامر فأرسل إليه يستزيره، فجاء إليه، فرده على عمله، فلما ودعه قال: إني سائلك ثلاثاً فقل هن لك. فقال: هن لك، وأنا ابن أم حكيم. قال: ترد علي عملي ولا تغضب. قال: قد فعلت. قال: وتهب لي مالك بعرفة. قال: قد فعلت. قال: وتهب لي دورك بمكة. قال: قد فعلت. قال: وصلتك رحم؟ فقال ابن عامر: يا أمير المؤمنين إني سائلك ثلاثاً فقل هن لك. فقال: هن لك، وأنا ابن هند. قال: ترد علي مالي بعرفة. قال: قد فعلت. قال: ولا تحاسب لي عاملاً ولا تتبع لي أثراً. قال: قد فعلت. قال: وتنكحني ابنتك هنداً. قال: قد فعلت.
ويقال: إن معاوية قال له: اختر إما أن أتبع أثرك وأحاسبك بما صار وأردك، وإما أن أعزلك وأسوغك ما أصبت. فاختار العزل وأن لا يسوغه ما أصاب، فعزله وولى البصرة الحارث بن عبد الله الأزدي.

.ذكر استلحاق معاوية زياداً:

وفي هذه السنة استلحق معاوية زياد بن سمية، فزعموا أن رجلاً من عبد القيس كان مع زياد لما وفد على معاوية، فقال لزياد: إن لابن عامر عندي يداً فإن أذنت لي أتيته. قال: على أن تحدثني بما يجري بينك وبينه. قال: نعم. فأذن له فأتاه، فقال له ابن عامر: هيه هيه! وابن سمية يقبح آثاري ويعرض بعمالي! لقد هممت أن آتي بقسامةٍ من قريش يحلفون بالله أن أبا سفيان لم ير سمية.
فلما رجع سأله زياد فلم يخبره، فألح عليه حتى أخبره، فأخبر زيادٌ بذلك معاوية. فقال معاوية لحاجبه: إذا جاء ابن عامر فاضرب وجه دابته عن أقصى الأبواب. ففعل ذلك به. فأتى ابن عامر يزيد فشكا ذلك إليه، فركب معه حتى أدخله، فلما نظر إليه معاوية قام فدخل، فقال يزيد لابن عامر: اجلس، فكم عسى أن تقعد في البيت عن مجلسه! فلما أطالا خرج معاوية وهو يتمثل:
لنا سباقٌ ولكم سباق ** قد علمت ذلكم الرفاق

ثم قعد فقال: يا ابن عامر أنت القائل في زياد ما قلت؟ أما والله لقد علمت العرب أني كنت أعزها في الجاهلية وأن الإسلام لم يزدني إلا عزاً، وأني لم أتكثر بزياد من قلة ولم أتعزز به من ذلة، ولكن عرفت حقاً له فوضعته موضعه. فقال: يا أمير المؤمنين نرجع إلى ما يحب زياد. قال: إذاً نرجع إلى ما تحب. فخرج ابن عامر إلى زياد فترضاه.
فلما قدم زياد الكوفة قال: قد جئتكم في أمر ما طلبته إلا لكم. قالوا: ما تشاء؟ قال: تلحقون نسبي بمعاوية. قالوا: أما بشهادة الزور فلا. فأتى البصرة فشهد له رجال.
هذا جميع ما ذكره أبو جعفر في استلحاق معاوية نسب زياد، ولم يذكر حقيقة الحال في ذلك، إنما ذكر حكايةً جرت بعد استلحاقه، وأنا أذكر سبب ذلك وكيفيته، فإنه من الأمور المشهورة الكبيرة في الإسلام لا ينبغي إهمالها.
وكان ابتداء حاله أن سمية أم زياد كانت لدهقان زندورد بكسكر، فمرض الدهقان، فدعا الحارث بن كلدة الطبيب الثقفي، فعالجه فبرأ، فوهبه سمية، فولدت عند الحارث أبا بكرة، واسمه نفيعٍ، فلم يقر به، ثم ولدت نافعاً، فلم يقر به أيضاً، فلما نزل أبو بكرة إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، حين حصر الطائف قال الحارث لنافع: أنت ولدي. وكان قد زوج سمية من غلام له اسمه عبيد، وهو رومي، فولدت له زياداً.
وكان أبو سفيان بن حرب سار في الجاهلية إلى الطائف فنزل على خمار يقال له أبو مريم السلولي، وأسلم أبو مريم بعد ذلك وصحب النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال أبو سفيان لأبي مريم: قد اشتهيت النساء فالتمس لي بغياً، فقال له: هل لك في سمية؟ فقال: هاتها على طول ثدييها وذفر بطنها. فأتاه بها، فوقع عليها، فعلقت بزياد، ثم وضعته في السنة الأولى من الهجرة، فلما كبر ونشأ استكتبه أبو موسى الأشعري لما ولي البصرة، ثم إن عمر بن الخطاب استكفى زياداً أمراً فقام فيه مقاماً مرضياً، فلما عاد إليه حضر، وعند عمر المهاجرون والأنصار، فخطب خطبةً لم يسمعوا بمثلها. فقال عمرو ابن العاص: لله هذا الغلام لو كان أبوه من قريش لساق العرب بعصاه!فقال أبو سفيان، وهو حاضر: والله إني لأعرف أباه ومن وضعه في رحم أمه. فقال علي: يا أبا سفيان اسكت فإنك لتعلم أن عمر لو سمع هذا القول منك لكان إليك سريعاً.
فلما ولي علي الخلافة استعمل زياداً على فارس، فضبطها وحمى قلاعها، واتصل الخبر بمعاوية، فساءه ذلك وكتب إلى زياد يتهدده ويعرض له بولادة أبي سفيان إياه، فلما قرأ زياد كتابه قام في الناس وقال: العجب كل العجب من ابن آكلة الأكباد، ورأس النفاق! يخوفني بقصده إياي وبيني وبينه ابنا عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في المهاجرين والأنصار؟ أما والله لو أذن لي في لقائه لوجدني أحمز مخشياً ضراباً بالسيف.
وبلغ ذلك علياً فكتب إليه: إني وليتك ما وليتك وأنا أراك له أهلاً، وقد كانت من أبي سفيان فلتة من أماني الباطل وكذب النفس لا توجب له ميراثاً ولا تحل له نسباً، وإن معاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فاحذر ثم احذر، والسلام.
فلما قتل علي، وكان من أمر زياد ومصالحته معاوية ما ذكرناه، واضع زيادٌ مصقلة بن هبيرة الشيباني وضمن له عشرين ألف درهم ليقول لمعاوية: إن زياداً قد أكل فارس براً وبحراً وصالحك على ألفي ألف درهم، والله ما أرى الذي يقال إلا حقاً، فإذا قال لك: وما يقال؟ فقل: يقال إنه ابن أبي سفيان. ففعل مصقلة ذلك، ورأى معاوية أن يستميل زياداً، واستصفى مودته باستلحاقه، فاتفقا على ذلك، وأحضر الناس وحضر من يشهد لزياد، وكان فيمن حضر أبو مريم السلولي، فقال له معاوية: بم يشهد يا أبا مريم؟ فقال: أنا أشهد أن أبا سفيان حضر عندي وطلب مني بغياً فقلت له: ليس عندي إلا سمية، فقال: إيتني بها على قذرها ووضرها، فأتيته بها، فخلا معها ثم خرجت من عنده وإن إسكتيها لتقطران منياً. فقال له زياد: مهلاً أبا مريم! إنما بعثت شاهداً ولم تبعث شاتماً.
فاستلحقه معاوية، وكان استلحاقه أول ما ردت أحكام الشريعة علانيةً، فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قضى بالولد للفراش وللعاهر الحجر.
وكتب زياد إلى عائشة: من زياد بن أبي سفيان، وهو يريد أن تكتب له: إلى زياد بن أبي سفيان، فيحتج بذلك، فكتبت: من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها زياد. وعظم ذلك على المسلمين عامة وعلى بني أمية خاصة، وجرى أقاصيص يطول بذكرها الكتاب فأضربنا عنها.
ومن اعتذر لمعاوية قال: إنما استلحق معاوية زياداً لأن أنكحة الجاهلية كانت أنواعاً، لا حاجة إلى ذكر جميعها، وكان منها أن الجماعة يجامعون البغي فإذا حملت وولدت ألحقت الولد لمن شاءت منهم فيلحقه، فلما جاء الإسلام حرم هذا النكاح، إلا أنه أقر كل ولد كان ينسب إلى أب من أي نكاح كان من أنكحتهم على نسبه ولم يفرق بين شيء منها، فتوهم معاوية أن ذلك جائز له ولم يفرق بين استلحاق في الجاهلية والإسلام؛ وهذا مردود لاتفاق المسلمين على إنكاره ولأنه لم يستلحق أحد في الإسلام مثله ليكون به حجة.
قيل: أراد زياد أن يحج بعد أن استلحقه معاوية، فسمع أخوه أبو بكرة، وكان مهاجراً له من حين خالفه في الشهادة بالزنا على المغيرة بن شعبة، فلما سمع بحجه جاء إلى بيته وأخذ ابناً له وقال له: يا بني قل لأبيك إنني سمعت أنك تريد الحج ولابد من قدومك إلى المدينة ولاشك أن تطلب الاجتماع بأم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، فإن أذنت لك فأعظم به خزياً مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإن منعتك فأعظم به فضيحة في الدنيا وتكذيباً لأعدائك. فترك زياد الحج وقال: جزاك الله خيراً فقد أبلغت في النصح.

.ذكر غزو المهلب السند:

وفيها غزا المهلب بن أبي صفرة ثغر السند فأتى بنة والأهور، وهما بين الملتان وكابل، فلقيه العدو وقاتله، ولقي المهلب ببلاد القيقان ثماية عشر فارساً من الترك فقاتلوه فقتلوا جميعاً، فقال المهلب: ما جعل هؤلاء الأعاجم أولى بالتشمير منا! فحذف الخيل، وكان أول من حذفها من المسلمين، وفي يوم بنة يقول الأزدي:
ألم تر أن الأد ليلة بيتوا ** ببنة كانوا خير جيش المهلب؟

.ذكر عدة حوادث:

وحج بالناس في هذه السنة معاوية. وفيها عمل مروان بن الحكم المقصورة بالمدينة، وهو أول من عملها بها، وكان معاوية قد عملها بالشام لما ضربه الخارجي. وفيها توفيت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي، صلى الله عليه وسلم. وفيها قتل رفاعة العدوي من عدي رباب، وهو بصري له صحبة. ثم دخلت:

.سنة خمس وأربعين:

فيها ولى معاوية الحارث بن عبد الله الأزدي البصرة في أولها حين عزل ابن عامر، وهو من أهل الشام، فاستعمل الحارث على شرطته عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي، فبقي الحارث أميراً على البصرة أربعة أشهر، ثم عزله وولاها زياداً.

.ذكر ولاية زياد بن أبيه البصرة:

قدم زيادٌ الكوفة فأقام ينتظر إمارته عليها، فقيل ذلك للمغيرة بن شعبة، فسار إلى معاوية فاستقاله الإمارة وطلب منه أن يعطيه منازل بقرقيسيا ليكون بين قيس، فخافه معاوية وقال له: لترجعن إلى عملك. فأبى، فازداد معاوية تهمةً له، فرده على عمله، فعاد إلى الكوفة ليلاً وأرسل إلى زياد فأخرجه منها.
وقيل: إن المغيرة لم يسر إلى الشام وإنما معاوية أرسل إلى زياد، وهو بالكوفة، فأمره بالمسير إلى البصرة، فولاه البصرة وخراسان وسجستان، ثم جمع له الهند والبحرين وعمان، فقدم البصرة آخر شهر ربيع الآخر سنة خمس وأربعين والفسق ظاهر فاشٍ، فخطبهم خطبته البتراء، لم يحمد الله فيها، وقيل: بل حمد الله فقال:
الحمد لله على إفضاله وإحسانه، ونسأله مزيداً من نعمه، اللهم كما زدتنا نعماً فألهمنا شكراً على نعمك علينا! أما بعد فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والفجر الموقد لأهله النار، الباقي عليهم سعيرها، ما يأتي سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام، فينبت فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير، كأن لم تسمعوا نبي الله، ولم تقرأوا كتاب الله، ولم تعلموا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمد الذي لا يزول، أتكونوا كمن طرفت عينه الدنيا، وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه؛ هذه المواخير المنصوبة والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر، والعدد غير قليل، ألم تكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار؟ قربتم القرابة وباعدتم الدين، تعتذرون بغير العذر، وتعطفون على المختلس، كل امرىء منكم يذب عن سفيهه، صنيع من لا يخاف عاقبة، ولا يخشى معاداً! ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السفهاء، فلم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام ثم أطرقوا وراءكم كنوساً في مكانس الريب، حرام علي الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدماً وإحراقاً! إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، لين في غير ضعف، وشدة في غير جبرية وعنف، وإني لأقسم بالله لأخذن الولي بالولي، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي قناتكم، إن كذبة المنبر تبقى مشهورة، فإذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي، من بيت منكم فأنا ضامن لما ذهب له، إياي ودلج الليل فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه، وقد أجلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليكم، وإياي ودعوى الجاهلية فإني لا أجد أحداً دعا بها إلا قطعت لسانه.
وقد أحدثتم أحداثاً لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرق قوماً غرقناه، ومن حرق على قوم حرقناه، ومن نقب بيتاً نقبت عن قلبه، ومن نبش قبراً دفنته فيه حياً، فكفوا عني أيديكم وألسنتكم أكفف عنكم لساني ويدي، وإياي لا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه، وقد كانت بيني وبين أقوام إحنٌ فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي، فمن كان منكم محسناً فليزدد إحساناً، ومن كان مسيئاً فلينزع عن إساءته. إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعاً، ولم أهتك له ستراً حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل لم أناظره، فاستأنفوا أموركم، وأعينوا على أنفسكم، فرب مبتئسٍ بقدومنا سيسر، ومسرور بقدومنا سيبتئس.
أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسةً، وعنكم ذادةً، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم، واعلموا أني مهما قصرت عنه فإني لا أقصر عن ثلاث: لست محتجباً عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقاً بليل، ولا حابساً رزقاً ولا عطاء عن إبانه، ولا مجمراً لكم بعثاً، فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فإنهم ساستكم المؤدبون، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى تصلحوا يصلحوا، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم فيشتد لذلك غيظكم، ويطول له حزنكم، ولا تدركوا حاجتكم، مع أنه لو استجيب لكم لكان شراً لكم، أسأل الله أن يعين كلاً على كل، فإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه على أذلاله، وإن لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كل امرىء منكم أن يكون من صرعاي.
فقام إليه عبد الله بن الأهتم فقال: أشهد أيها الأمير أنك أوتيت الحكمة وفصل الخطاب. فقال: كذبت، ذاك نبي الله داود! فقال الأحنف: قد قلت فأحسنت أيها الأمير، والثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء، وإنا لن نثني حتى نبتلي. فقال زياد: صدقت. فقام إليه أبو بلال مرداس بن أدية، وهو من الخوارج، وقال: أنبأ الله بغير ماقلت، قال الله تعالى: {وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرةٌ وزر أخرى وأن ليس للإنسان ما سعى} النجم: 37- 39، فأوعدنا الله خيراً مما أوعدتني يا زياد. فقال زياد: إنا لا نجد إلى ما تريد أنت وأصحابك سبيلاً حتى نخوض إليها الدماء.
واستعمل زياد على شرطته عبد الله بن حصن، وأجل الناس حتى بلغ الخبر الكوفة وعاد إليه وصول الخبر، فكان يؤخر العشاء الآخرة ثم يصلي فيأمر رجلاً أن يقرأ سورة البقرة أو مثلها يرتل القرآن، فإذا فرغ أمهل بقدر ما يرى أن إنساناً يبلغ أقصى البصرة، ثم يأمر صاحب شرطته بالخروج، فيخرج فلا يرى إنساناً إلا قتله، فأخذ ذات ليلة أعرابياً فأتى به زياداً فقال: هل سمعت النداء؟ فقال: لا والله! قدمت بحلوبة لي وغشيني الليل فاضطررتها إلى موضع وأقمت لأصبح ولا علم لي بما كان من الأمير. فقال: أظنك والله صادقاً ولكن في قتلك صلاح الأمة. ثم أمر به فضربت عنقه.
وكان زياد أول من شدد أمر السلطان، وأكد الملك لمعاوية، وجرد سيفه، وأخذ بالظنة، وعاقب على الشبهة، وخافه الناس خوفاً شديداً حتى أمن بعضهم بعضاً، وحتى كان الشيء يسقط من يد الرجل أو المرأة فلا يعرض له أحد حتى يأتيه صاحبه فيأخذه، ولا يغلق أحد بابه.
وأدر العطاء، وبنى مدينة الرزق، وجعل الشرط أربعة آلاف، وقيل له: إن السبيل مخوفة. فقال: لا أعاني شيئاً وراء المصر حتى أصلح المصر، فإن غلبني فغيره أشد غلبة منه. فلما ضبط المصر وأصلحه تكلف ما وراء ذلك فأحكمه.

.ذكر عمال زياد:

استعان زياد بعدة من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، منهم: عمران بن حصين الخزاعي ولاه قضاء البصرة، وأنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سمرة، وسمرة بن جندب. فأما عمران فاستعفى من القضاء فأعفاه. واستقضى عبد الله بن فضالة الليثي، ثم أخاه عاصماً، ثم زرارة بن أوفى، وكانت أخته عند زياد.
وقيل إن زياداً أول من سير بين يديه بالحراب والعمد واتخذ الحرس رابطة خمسمائة لا يفارقون المسجد.
وجعل خراسان أرباعاً، واستعمل على مرو أمير بن أحمر، وعلى نيسابور خليد بن عبد الله الحنفي، وعلى مرو الروذ والفارياب والطالقان قيس ابن الهيثم، وعلى هراة وباذغيس وبوشنج نافع بن خالد الطاحي، ثم عتب عليه فعزله.
وسبب تغيره عليه أن نافعاً بعث بخوان باذرهر إلى زياد قوائمه منه، فأخذ نافع منها قائمة وعمل مكانها قائمة من ذهب وبعث الخوان مع غلام له اسمه زيد، وكان يلي أمور نافع كلها، فسعى زيدٌ بنافع إلى زياد وقال: إنه خانك وأخذ قائمة الخوان. فعزله زياد وحبسه وكتب عليه كتاباً بمائة ألف، وقيل: بثمانمائة ألف، فشفع فيه رجالٌ من وجوه الأزد فأطلقه.
واستعمل الحكم بن عمرو الغفاري، وكانت له صحبة، وكان زياد قال لحاجبه: ادع لي الحكم، يريد الحكم بن أبي العاص الثقفي، ليوليه خراسان، فخرج حاجبه فرأى الحكم بن عمرو الغفاري فاستدعاه، فحين رآه زياد قال له: ما أردتك ولكن الله أرادك! فولاه خراسان وجعل معه رجالاً على جباية الخراج، منهم: أسلم بن زرعة الكلابي وغيره. وغزا الحكم طخارستان، فغنم غنائم كثيرة، ثم مات؛ واستخلف أنس بن أبي أناس بن زنيم، فعزله زياد وكتب إلى خليد بن عبد الله الحنفي بولاية خراسان، ثم بعث الربيع بن زياد الحارثي في خمسين ألفاً من البصرة والكوفة.